الدكتور مصطفى بن حموش جامعة البحرين - خاص
الإسكان العمودي: من الأمل إلى الألم
ما أن انطلقت تجربة الأبراج والبناء العمودي في مدرسة شيكاغو أواخر القرن التاسع عشر حتى أصبحت موضة في أنحاء العالم خلال عقود من الزمن تعكس تقدم العمران البشري العصري. فقد لجأت إليها أوربا مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية مدفوعة بأحلام المعماريين الطوباويين لفك أزمة السكن الخانقة إثر اندثار الكثير من المدن و تشرد الملايين من سكانها. أما في العالم الثالث فقد اتخذتها البلدان “السائرة في طريق النمو” كوسيلة لمواجهة أزمة السكن الخانقة الناتجة من الزحف الريفي من جهة و تسارع النمو الديمغرافي من جهة أخرى و للدخول في عالم التقدم والعصرنة من جهة ثالثة.
و قد قامت نظرية الإسكان العمودي على ركيزتين تبيّن فيما بعد نسبيتهما إن لم نقل مغالطتاهما. فالأولى هي سرعة الإنجاز في البناء العمودي باللجوء إلى البناء المسبق و الإنتاج الآلي المتسلسل، و الثانية تحقيق الكثافة السكانية العالية و الاقتصاد في استعمال الأرض بالارتفاع و تكرار الطوابق على نفس القطعة.
لكن تجربة الإسكان العمودي بعد تجارب ميدانية عديدة في فرنسا و بريطانيا و هولندا و غيرها واجهت ردود فعل اجتماعية عديدة و قوية نتيجة أثرها على المجتمعات و ارتباطها بالعديد من المشكلات النفسية و الصحية بل و الأمنية التي واجهها السكان. فقد وجدت تلك المجتمعات أن هذا النموذج السكني كثيرا ما يقترن بالكآبة النفسية و الإحساس بالعزلة فيما يؤدي على المستوى الاجتماعي إلى تخريب شبكات العلاقات الاجتماعية. و قد امتد الأثر إلى الأطفال بحكم عدم خروجهم الحرّ خارج البيت نتيجة تخوّفات الأولياء مما يؤدي على مر الزمن إلى ضعف نمو هيكلهم العظمي و قلة مناعتهم الصحية. أما من الجانب الأمني فقد وجد باحثون أمريكيون أمثال أوسكار نيومن أن تخلخل الروابط الاجتماعية و تضخم الحياة الفردية المنفصلة عن الجماعة غالبا ما يكون وراء تردي الأمن و زيادة نسبة الإجرام و الاعتداء في المدن الأمريكية التي تتزايد عادة في المناطق السكنية المتعددة الطوابق.
أدرك معماريون و مخططون ناقدون من جهتهم و بعد تقييم عشريات من التجارب الميدانية المتعددة في مختلف بقاع العالم ابتداء من أوربا و أمريكا أن البشر بفطرتهم يفضلون البناء الأرضي مهما كانت ظروفه عن السكن العمودي، و أن تقبلهم للسكن العمودي لا يكون إلا من باب الاضطرار. و لذلك فقد اتجهوا إلى طرح بديل “الإسكان الأفقي المكثف” لتعويض الإسكان العمودي.
لقد كانت و لا تزال مسألة سرعة الإنجاز و الكثافة السكانية أو اقتصاد الأرض أهم دافعين للتشبث بالنموذج العمودي. فالدراسات المناوئة أثبتت أن الفعالية الاقتصادية للبناء العمودي المسبق و الارتفاع لا يتأتى إلا بعد تجاوز طوابق عديدة تتجاوز العشرة، مما يجعل البناء بذلك العلو مدخلا لمشكلات تقنيات أخرى، أشد تعقيدا. هذا بالإضافة إلى غياب السياق الصناعي في البلدان المتخلفة الذي يدفع بها إلى التبعية التكنولوجية و تعطيل طاقاتها البشرية العاملة الهائلة. إن البناء العمودي المصنّع بعد تجارب عديدة في الدول المتخلفة ذات العدد السكاني الهائل لم يقض على الأزمة فيها، بل إنه أدى إلى استنزاف ميزانياتها المحدودة دون تحقيق آمالها. و قد يكون البناء بالطرق التقليدية مثلما هو في الهند أو مصر التي تمتلك رصيدا بشريا ضخما من اليد العاملة أسرع من الطرق المصنعة العالية التي ترتبط بسياق البلدان المتقدمة تكنولوجيا و وجود اليد العاملة المتخصصة. فقطاع البناء هو أحد مجالات الاقتصاد الأكثر استيعابا لليد العاملة.
أما من حيث اقتصاد الأرض، فإن وضع العمارات في الموقع يحتكم إلى قوانين الارتداد للسماح بدخول أشعة الشمس و كذلك حفظ الخصوصية. فمراعاة هذه القوانين يؤدي بالضرورة إلى تباعد المباني عن بعضها و نشأة مساحات فارغة واسعة جدا تتجاوز المقياس البشري، تتحول بفعل الزمن إلى مجرد برار و أماكن قاحلة. و كثيرا ما يؤدي ذلك إلى مضاعفة مهمات السلطات المحلية في الاعتناء بتلك الفراغات العامة من حيث النظافة والتشجير و الصيانة العامة. أما على مستوى المدينة فإن نتيجة ذلك التخطيط هو ضياع عناصر عمرانية مترسخة في الحضارات الإنسانية جمعاء مثل الشوارع و الرحبات و الأزقة. و رغم الإيهام بأن الدرج و المصاعد قد عوضت الشوارع و الأزقة، و السطوح السقفية قد عوضت الساحات، إلا أن الواقع قد كذّب تلك النظرية. و لذلك فقد ظهر لخبراء البيئة العمرانية أن العودة إلى البناء السكني الأفقي المكثف هو السبيل الوحيد لإعادة تلك العناصر.
لقد أخذ بعض المعماريين على عاتقهم مواجهة تحدي الكثافة بالبناء الأفقي فأثبتوا إمكانية الوصول إلى الكثافة العالية قد تتجاوز المائة وحدة سكنية في الهكتار الواحد دون ضياع الجودة البيئية. و لعل آخر مشروع للإسكان الاجتماعي الأفقي المكثف في بلدية فيفياندا بمدريد الذي صممه مكتب مورفوزيز و الذي تم إنجازه سنة 2007 نموذج لذلك التحدي و استمرار النقاش حيث بلغت الكثافة السكانية فيه 140 وحدة سكنية في الهكتار الواحد.
و يبقى استمرار الاعتماد على البناء العمودي في الكثير من الدول المتخلفة رغم توقفه في الكثير من الدول المتقدمة مثل بريطانيا و فرنسا و أمريكا و توصيات الدراسات الأكاديمية بعكسه مسألة تجاذب قوى ميدانية. فبعض الباحثين يعزونه إلى تأثير مراكز القرار الاقتصادي مثل المقاولين و شركات البناء المصنع الجاهز التي تتحكم أحيانا بزمام السياسات السكنية في بعض تلك البلدان، حيث أن وجود أي بديل يعرض رأسمالها للانتكاس الاقتصادي أو الإفلاس.
من الطريف أن يربط كذلك بعض المحللين استمرار البناء السكني العمودي بالحمّى الانتخابية و اللعبة السياسية و حملات جمع الأصوات في البلدان النامية التي تشكل أزمة السكن فيها ورقة انتخابية مهمة. فهي تدخل كمشكل قائم في الأوقات التي يشتد فيها التنافس الانتخابي و التطلع إلى احتلال المناصب الوزارية والرئاسية الكبرى. فاللجوء إلى تلك المشاريع السكنية العمودية كثيرا ما يكون وسيلة ناجعة للترويج للإنجازات المحققة في الفترة الانتخابية لذلك المسؤول السياسي، مما يجعلها أكثر تأثيرا في شعبيته و تصويته لدى الطبقات الفقيرة و المتوسطة مما هو عند اللجوء إلى البناء الأفقي أو مشاريع التحسين و الترقية العمرانية و الترميم التي لا تبهر الناظرين.
مع كل ما ذكر عن الإسكان العمودي من إخفاقات و مساوئ فإنه يبقى وسيلة لتحدي الأزمة السكنية في البلدان التي تعاني من الشح الحاد في الأراضي مثل سنغافورة و اليابان و هونغ كونغ التي تلجأ إلى البناء العمودي كحل اضطراري لمواجهة أزمة السكن و الاقتصاد في استعمالات الأرض.
.